سورة الأنبياء - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ(100)}
معلوم أن الزفير هو الخارج من عملية التنفس، فالإنسان يأخذ في الشهيق الأكسجين، ويُخرِج في الزفير ثاني أكسيد الكربون، فنلحظ أن التعبير هنا اقتصر على الزفير دون الشهيق؛ لأن الزفير هو الهواء الساخن الخارج، وليس في النار هواء للشهيق، فكأنه لا شهيقَ لهم، أعاذنا الله من العذاب.
{وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ} [الأنبياء: 100].
وهذه من الآيات التي توقف عندها المستشرقون، لأن هناك آياتٍ أخرى تُثبت لهم في النار سَمْعاً وكلاماً. كما في قوله سبحانه: {ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [الأعراف: 44].
نعم، هم يسمعون، لكن لا يسمعون كلاماً يَسُرُّ، إنما يسمعون تبكيتاً وتأنيباً، كما في قوله تعالى: {ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين} [الأعراف: 50].


{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ(101)}
بعد أن ذكر سبحانه جزاء الكافرين في النار ذكر المقابل، وذِكْر المقابل يوضح المعنى، اقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13- 14].
ويقول: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً..} [التوبة: 82] لذلك تظل المقارنة حيَّة في الذِّهْن.
ومعنى: {سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى..} [الأنبياء: 101] الحُسْنى: مؤنث الأحسن، تقول: هذا حَسَن، وهذه حسنة، فإنْ أردتَ المبالغة تقول: هذا أحسن، وهذه حُسْنى. مثل: أكبر وكُبْرى. ومعنى: {سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى..} [الأنبياء: 101] أنهم من أهل الطاعة، ومن أهل الجنة، فهكذا حُكْم الله لهم، وقد أخذ الله تعالى جزءاً من خَلْقه وقال: (هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي).
ولا تقُلْ: ما ذنب هؤلاء؟ لأنه سبحانه حكم بسابق عِلْمه بطاعة هؤلاء، ومعصية هؤلاء.
وقوله: {أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] أي: مبعدون عن النار.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشتهت..}.


{لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ(102)}
حسيس النار: أزيزها، وما ينبعث منها من أصوات أول ما تشتعل {وَهُمْ فِي مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء: 102] فلم يقُلْ مثلاً: وهم بما اشتهتْ أنفسهم، إنما {فِي مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ..} [الأنبياء: 102] كأنهم غارقون في النعيم ممَّا اشتهتْ أنفسهم، كأن شهوات أنفسهم ظرف يحتويهم ويشملهم. وهذا يُشوِّق أهل الخير والصلاح للجنة ونعيمها، حتى نعمل لها، ونُعِد العُدَّة لهذا النعيم.
وسبق أن قلنا: إن الإنسان يتعب في أول حياته، ويتعلم صنعة، أو يأخذ شهادة لينتفع بها فيما بعد ويرتاح في مستقبل حياته، وعلى قَدْر تعبك ومجهودك تكون راحتك، فكل ثمرة لابد لها من حَرْث ومجهود، والله عز وجل لا يُضيع أجرَ مَنْ أحسن عملاً.
وكنا نرى بعض الفلاحين يقضي يومه في حقله، مهملَ الثياب، رثَّ الهيئة، لا يشغله إلا العمل في زرعه، وآخر تراه مُهنْدماً نظيفاً يجلس على المقهى سعيداً بهذه الراحة، وربما يتندر على صاحبه الذي يُشقِى نفسه في العمل، حتى إذا ما جاء وقت الحصاد وجد العامل ثمرة تعبه، ولم يجد الكسول غير الحسرة والندم.
إذن: ربك- عز وجل- أعطاك الطاقة والجوارح، ويريد منك الحركة، وفي الحركة بركة، فلو أن الفلاح جلس يُقلِّب في أرضه ويُثير تربتها دون أنْ يزرعها لَعوَّضه الله وأثمر تعبه، ولو أن يجد شيئاً في الأرض ينتفع به مثل خاتم ذهب أو غيره.
وترف الإنسان وراحته بحسب تَعبه في بداية حياته، فالذي يتعب ويعرق مثلاً عَشْر سنين يرتاح طوال عمره، فإنٍْ تعب عشرين سنة يرتاح ويرتاح أولاده من بعده، وإنْ تعِب ثلاثين سنة يرتاح أحفاده وهكذا.
وترَف المتعلم يكون بحسب شهادته: فهذا شهادة متوسطة، وهذا عُلْيا، وهذا أخذ الدكتوراة، ليكون له مركز ومكانة في مجتمعه.
لكن مهما أعدَّ الإنسان لنفسه من نعيم الحياة وترفها فإنه نعيم بقّدْر إمكانياته وطاقاته؛ لذلك ذكرنا أننا حين سافرنا إلى سان فرانسيسكو رأينا أحد الفنادق الفخمة وقالوا: إن الملك فيصل- رحمه الله- كان ينزل فيه، فأردنا أنْ نتجوّل فيه، وفعلاً أخذنا بما فيه مظاهر الترف والأُبهة وروعة الهندسة، وكان معي ناس من عِلْية القوم فقلتُ لهم: هذا ما أعدّه العباد للعباد، فما بالكم بما أعدَّه رب العباد للعباد؟
فإذا ما رأيتَ أهل النعيم والترف في الدنيا فلا تحقد عليهم؛ لأن نعيمهم يُذكِّرك ويُشوِّقك لنعيم الآخرة.
ثم يقول الحق سبحانه: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر..}.

30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37